القديس بولس الرسول
(2)
الإخلاص في حياة بولس سر
اهتدائه
بقلم المتنيح:الأنبا
غريغوريوس
لذلك يبدو أن بولس كان من
ذلك الطراز من الناس الذي يتميز باستقلال الشخصية,والاعتداد
برأيه الخاص,فلا ينقاد للآخرين...وكان من عمق الإيمان بديانته
اليهودية,بحيث كانت المسيحية عنده بمثابة بدعة أو هرطقة أو
ثورة هدامة ضد ديانة موسي وأنبياء الله القديسين.لذلك كان
قلبه ممتلئا يقينا أنه يجب عليه أن يقاوم المسيحية الناشئة
بقدر ما في قلبه من إخلاص وإيمان بديانة موسي,فإنها الدين
الإلهي علي الحقيقة,وما عداه أفك وضلال...
وقد رأي الله فيه إخلاصه
للحق,وإنه كان يضطهد المسيحيين لا عن خبث وشر بل عن نية
خالصة لوجه الله تعالي...لذلك تركه حرا إلي أن يتبين خطأه
بنفسه,وكان يرقبه من السماء ويري فيه لإخلاصه الإناء المختار
وقال الرب عنه لحنانيا الرسول:فإن هذا لي إناء مختار ليحمل
اسمي أمام الأمم والملوك وبني إسرائيل,وإني سأريه كم ينبغي
أن يتألم من أجل اسمي (أعمال9:16,15) وقال له يوم تجلي في
الطريق إلي دمشق:فانهض وقم علي قدميك,فإني لهذا ظهرت لك
لأنتخبك خادما وشاهدا بما رأيت وبما سأظهر لك به,منقذا إياك
من الشعب ومن الأمم الذين أنا أرسلك الآن إليهم لتفتح عيونهم
كي يرجعوا من الظلمات إلي النور ومن سلطان الشيطان إلي الله
حتي ينالوا بالإيمان بي مغفرة الخطايا ونصيبا مع القديسين
(أعمال26:16-18).
لقد أتي بولس إلي المسيح
أخيرا بعد مقاومة شديدة منه,وقد أرضي نفسه بهذه
المقاومة,معتقدا أنه أرضي الله أيضا...وقد كان وهو يضطهد
المسيحية في يد الله امتحانا قاسيا لإيمان المسيحيين,الذي تطهر
بالاضطهاد,ونما وازدهر فكان بمثابة العود الذي باحتراقه يظهر
شذي رائحته الزكية.جاء في سفر الأعمال وحدث في ذلك اليوم
اضطهاد شديد علي الكنيسة التي بأورشليم,فتشتت الجميع في بلاد
اليهودية والسامرة ماعدا الرسل...وأما الذين تشتتوا فكانوا
يجولون مبشرين بالكلمة (أعمال8:1-4) وهكذا نتبين أن الاضطهاد وإن
أضر بالمسيحيين كأفراد,لكنه ما أضر بالمسيحية ذاتها,بل أنه
كان امتحانا للمسيحيين,فمن كان إيمانه سليما ثبت,ومن كان
إيمانه ضعيفا سقط.ولئن كان سقوطه,خسارة,لكنه يرتد أخيرا
بالخير العام علي الديانة المسيحية نفسها.إن مثل الاضطهاد
للكنيسة كمثل العاصفة العاتية تهز الشجرة,فتسقط منها الأوراق
الصفراء الذابلة,لتعطي مجالا للبراعم الخضراء النابتة
الجميلة.أما الشجرة نفسها فالعاصفة العاتية ولئن كانت تحنيها
إلي حين,وتعذبها بعض الوقت,ولكنها أخيرا تؤول إلي تعميق
جذورها في التربة.ثم إن الاضطهاد ذاته امتحان لطبيعة
الديانة,فإن كانت إلهية ثبتت,وإن كانت شيطانية زالت.وحسنا
قال الحكماء:إن ما من الله يثبت,وما من الشيطان يزول.لذلك
لا يخشي الروحانيون علي المسيحية من اضطهاد المضطهدين,فقد
أصابوا إذ قالوا:إن دماء الشهداء بذار الإيمان.ثم أنه من
الطبيعي أن يحارب الشيطان المسيحية لأنها تقويض لمملكته.وفي
هذا جواب علي السؤال القديم:لماذا يكرهون الصليب؟ ولماذا
يهدمون الكنائس؟.
لقد نشرت إحدي المجلات الدينية
التي لا تألو جهدا في بث الكراهية ضد المسيحية
والمسيحيين,وتصفهم بأنهم كفار وصليبيون -في عددها الصادر في
ابريل- مايو 1981 تقول:لن ترتفع راية الصليب...ولن تسود
الكنيسة مرة أخري بعد البعث الإسلامي الجديد.وبين أيدينا منشور
لإحدي الجماعات المتطرفة صدر في أحداث الأيام الأخيرة في إحدي
عواصم الوجه البحري,يقول ما نصه:كل مسيحي كافر...ومن حق أي
مسلم أن يقتله وفي أسفل المكتوب رسم علامة الصليب,والصليب
مضروب ومشطوب عليه.
ويبقي السؤال القديم
قائما:لماذا يكرهون الصليب؟ ولماذا يهدمون
الكنائس؟.
واضح أن هناك أهدافا سياسية
عند هؤلاء,ولكنها السياسة الممتزجة بالدين,أو السياسة التي
تلعب بالدين.
مسكين أيها الدين,أفهموك أم
ظلموك!
الله لا يقهر أحدا ضد
إرادته
لقد ترك الله شاول أو بولس
حرا يصنع ما يشاء دون أن يقهره علي شئ,ودون أن
يعاقبه,لكنه بعد أن رآه وقد شبع تقتيلا في المسيحيين,وأشبع
هواه الديني حتي هدأت نفسه,وربما وصل إلي مرحلة الصد أو
اللوم لنفسه,أو الاحتقار لذاته عند ذاته,وهي حالة يبلغها
عادة كل إنسان متطرف عندما يجد نفسه في غلوائه ومغالاته قد
صنع كل ما يريده دون أن يعترضه أحد...قد وصل إلي نهاية
الشوط,يرتد إلي نفسه باللوم خصوصا بعد أن تكون قد هدأت
شهوته في الانتقام وسورته في الغضب,فيبدأ في حساب الكسب
والخسارة فيجد أنه قد ارتكب جرائم القتل بغير عد ودون
حساب,فتصغر نفسه أمام نفسه,ويشعر أنه فقد إنسانيته ونزل إلي
ما هو أقل من مستوي الوحوش الضارية,فإن الوحش يقتل عندما
يكون جائعا أو عندما يهاجمه عدو,أما هو فقد قتل من غير
سبب وقد سفك في سورة غضبه دماء بريئة لأناس لم يخطئوا
إليه,وقد يكون كل جريرتهم أنهم يختلفون معه في الرأي أو
العقيدة أو الدين.
في هذا الوقت,كانت حالة شاول
النفسية تسمح له بأن يقبل في اتضاع صوت الله يوبخه ويقرعه
ويعاقبه.هنا وبينما هو في الطريق إلي دمشق ليتابع سلسلة
اضطهاده وتعذيبه للمسيحيين أبرق حوله بغتة نور من السماء يفوق
لمعان الشمس,فسقط علي الأرض هو والذين معه وسمع صوتا يقول
له بالعبرانية:شاول شاول:لماذا تضطهدني؟...أنا يسوع الناصري
الذي أنت تضطهده,إنه لصعب عليك أن ترفس مناخس المهماز...
فاستجاب شاول الذي هو بولس لصوت المسيح وهو يعاتبه.وأجاب علي
الفور:من أنت يا سيدي؟ ثم اردف قائلا:ماذا تريد يارب أن
أعمل؟ مظهرا بذلك استعداده التام لتنفيذ ما يصدره المسيح إليه
من أمر بعد أن تبين بولس جلالته السماوية وعظمته
الإلهية...وقد عبر عن ذلك بقوله للملك أغريباس:فمن ثم أيها
الملك أغريباس لم أكن معاندا للرؤيا السماوية (أعمال26:19) وإذ
قال له الرب:فانهض وقم علي قدميك,فإني لهذا ظهرت لك
لأنتخبك خادما وشاهدا بما رأيت وبما سأظهر لك فيه...قم واذهب
إلي دمشق وادخل المدينة.وهناك يقال لك عن جميع ما ترتب لك
أن تعمله (أعمال26:16),(22:10),(9:6) فنهض شاول عن الأرض وكان
وهو مفتوح العينين لا يبصر شيئا,فاقتادوه بيده وأدخلوه إلي
دمشق,ولبث ثلاثة أيام لا يبصر ولا يأكل ولا يشرب.وظهر الرب
في رؤيا لحنانيا الرسول وأمره قم فاذهب إلي الزقاق الذي يقال
له المستقيم واطلب في بيت يهوذا رجلا طرسوسيا اسمه شاول,وأنه
الآن يصلي...فمضي حنانيا بعد حديث مع الرب ودخل البيت,ووضع
عليه يديه وقال:أيها الأخ شاول,إن الرب يسوع الذي ظهر لك
في الطريق الذي جئت فيه قد أرسلني لتبصر وتمتلئ من روح
القدس ثم قال:أيها الأخ شاول:أبصر,فللوقت تساقط من عينيه
شئ كأنه قشور فأبصر في الحال,ونظر إليه,فقال:إن إله آبائنا
قد انتخبك لتعرف مشيئته,وتعاين البار,وتسمع صوتا من فيه,فإنك
ستكون شاهدا له لدي جميع الناس بما رأيت وسمعت.والآن:لماذا
تتواني؟ علم فاعتمد واغسل خطاياك داعيا باسم الرب.فقام
فاعتمد,ثم تناول طعاما فتقوي...وللوقت أخذ يكرز في المجامع
بالمسيح أنه هو ابن الله.فدهش كل الذين سمعوه...أما شاول
فكان يزداد قوة ويحير اليهود المقيمين في دمشق محققا أن يسوع
هو المسيح (أعمال9:17-22),(22:10-16),(26:16-19).
المغزي الكبير من حياة
بولس
والمغزي من قصة اهتداء شاول
إلي الإيمان المسيحي:
أولا:إنه يمكن أن يصنع
الإنسان بالآخرين شرا أو شرورا,وأن يكون إلي جانب الشيطان
وهو لا يدري,ومع ذلك قد يكون في فعل الإيذاء بالغير مخلصا
لمبدئه,ظانا أنه بذلك يعمل عمل الله ويدافع عن الحق
الإلهي.وقد قال المسيح له المجد في هذا المعني:ستأتي ساعة
يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدم ذبيحة لله
(يوحنا16:2).
ثانيا:طالما أن الإنسان يملك
قلبا مخلصا,فالله لن يتركه,ولن يتخلي عنه,وإنما يتأني عليه
ويطيل أناته من جهته لعله يعود إلي الحق من تلقاء ذاته,فإن
الله لا يقهر إنسانا علي أمر,بل يحترم إرادته ولن يسلبه
حقه في اختيار ما يريده,وإنما كأب وكرب يمهله فرصة
للتوبة,ويرسل إليه من قلبه وسائط للخلاص والهداية,فإن عرف
الإنسان أن يستفيد منها يفرح الله وملائكته بعودته إلي
الحق.قال المسيح له المجد:إنني أقول لكم أنه هكذا يكون فرح
في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر مما يكون بتسعة وتسعين بارا
لا يحتاجون إلي توبة...إنه هكذا يكون فرح أمام ملائكة الله
بخاطئ واحد يتوب (لوقا15:7-10).
ثالثا:لقد صنع شاول شرورا
كثيرة بالمسيحيين,ولكنه كان مع ذلك يحمل قلبا مخلصا,لذلك كان
خلاصه قريبا.وبقدر الإخلاص الذي حارب به المسيحية والمسيحيين
بقدر الإخلاص الذي خدم به المسيح وإنجيل المسيح وكنيسة
المسيح,واحتمل به اضطهاد الآخرين له من أجل المسيح.قال
الرسول بولس لأهل غلاطية:فإنكم قد سمعتم بسيرتي قبلا في
الديانة اليهودية وكيف كنت اضطهد كنيسة الله غاية الاضطهاد
وأتلفها.وكنت أتقدم في الديانة اليهودية علي كثيرين من أترابي
في جنسي إذ كنت أوفر غيرة في تقليدات آبائي.فلما ارتضي
الله الذي فرزني منذ كنت في جوف أمي ودعاني بنعمته أن يعلن
ابنه في لأبشر به بين الأمم,للوقت لم استشر لحما ودما
(غلاطية1:13-16).
رابعا:إن المغزي الكبير من
قصة شاول الذي هو بولس أن الله أبونا وراعينا وأنه كلي
الرحمة والجودة,وإنه طويل الأناة,وأنه يمهل وإن كان لا
يهمل,وأنه يسره عودة الخاطئ وأن يثوب إلي رشده,وبطول أناته
يستطيع أن يحول الشر إلي خير,والشرير إلي
قديس.
والإنسان الخير,والعابد الحقيقي
لله,هو من عاش علي غرار سيده,يحنو علي الخطاة ولا يقسو
عليهم,بترفق بهم لعلهم يتوبون ويهتدون.والمتدين علي الحقيقة هو
من امتلأ قلبه بالإشفاق علي كل الخليقة.قال المسيح له
المجد:سمعتم أنه قيل فلتحب قريبك.ولتبغض عدوك.أما أنا فأقول
لكم أحبوا أعداءكم,باركوا لاعنيكم,أحسنوا إلي مبغضيكم,وصلوا من
أجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم,لكي تكونوا أبناء أبيكم
الذي في السماوات,فإنه يجعل شمسه تشرق علي الأشرار
والصالحين,وينزل المطر علي الأبرار والظالمين,لأنكم إن أحببتم
الذين يحبونكم فأي أجر لكم...فكونوا إذن كاملين كما أن أباكم
الذي في السماوات كامل (متي5:43-48) ويقول له المجد أيضا:أحبوا
أعداءكم,وأحسنوا إليهم,وأعطوا ولا تخيبوا رجاء أحد...فسيكون
أجركم عظيما,وتكونون أبناء العلي,فإنه صالح مع الجاحدين
والأشرار.فكونوا أنتم رحماء,كما أن أباكم أيضا رحيم
(لوقا6:36,35).